يقول رحمه الله: (فصل خبر الواحد بحسب الدليل الدال عليه) فالمذهب الحق الذي عليه علماء
أهل السنة والجماعة في خبر الواحد أن لا يقال إنه لا يفيد العلم مطلقاً كما فعل ذلك الذين يردون السنة النبوية جملة، وكذلك لا يقال فيه: إنه يفيد العلم مطلقاً بأي شكل ورد، بل لا بد من التفصيل، يقول رحمه الله: (فتارةً يجزم بكذبه لقيام دليل كذبه) أي: أحياناًً يكون خبر الواحد مجزوماً بكذبه، وذلك إما لكون الراوي معلوماً بالكذب، وإما لكونه أخطأ خطأً ظاهراً بيناً، فلو كان الراوي صدوقاً أو ثقة ولكنه أخطأ خطأً ظاهراً بيناً يخالف ما رواه الثقات الذين لا شك في خبرهم ونقلهم فإن ذلك يعد جزماً برد روايته تلك، بسبب خطئه أو كذبه بمعنى مخالفته للواقع، وليس بالضرورة لأنه تعمد الكذب، ولكن قد يكون أيضاً الجزم بكذبه مبنياً على أن ناقله ممن يتعمد الكذب وثبتت مخالفته؛ لأن الكذب لا يقتضي أنه لا يصدق في أي شيء، فـ
الوضاع أيضاً قد يروي ما هو صحيح ثابت وليس شرطاً أن يكذب في كل شيء لكن لما ثبت أنه يتعمد الكذب حرمت الرواية عنه مطلقاً تثبتاً.ثم يقول رحمه الله: (وتارةً يظن كذبه إذا كان دليل كذبه ظنياً) فمن أخبار الآحاد من لا نستطيع أن نجزم بأنها كذب، ولكن هناك ظن، والكذب فيها وارد، فهذا أقل درجة، فيقال فيه إنه في درجة الظن؛ لأن دليل كذبه ظني.قال رحمه الله: (وتارةً يتوقف فيه فلا يترجح صدقه ولا كذبه إذا لم يقم دليل أحدهما) وهذا مما لا يخفى وقوعه، والإنسان كثيراً يجد نفسه متوقفاً لا يجزم بصدق الخبر ولا بكذبه، سواء كان ذلك عند فحصه لأسانيد الحديث أو الآثار أو الأخبار أو حتى في حياته العامة، فتأتيه أحياناً أخبار لا يستطيع أن يجزم بكذبها ولا أن يجزم بصحتها ولذلك يتوقف في الخبر.قال رحمه الله: (وتارةً يترجح صدقه ولا يجزم به) أي: وتارةً يترجح لديه أن هذا الخبر صادق ولكن لا على سبيل القطع والجزم فإذا أخبره واحد من الناس وهو ثقة عنده بخبر فهو يعرف صدقه لكنه لم يستطع أن يجزم به؛ لأنه يتوقع أن يشاهده، أو أن يخبره به غيره، أو كان في أمر فيه غرابة، ويحتاج أن يتأكد وأن يتثبت فيه، مع أنه لا يكذب هذا المخبر ولم يعهد عليه كذباً، لكن خبره لم يورث لديه اليقين والقطع بصدقه، وإنما ظن ظناً غالباً أنه صادق، وهذا أيضاً حق وواقع في الأسانيد، وكذلك في الأخبار في حياة الناس.قال رحمه الله: (وتارةً يجزم بصدقه جزماً لا يبقى معك شك فيه، وهذا هو الذي يفيد العلم القطعي أو العلم الضروري) وهذا مجمل القول الصحيح الذي عليه أهل الحق و
أهل السنة والجماعة وأئمة الجرح والتعديل والعقلاء في جميع الأمم وجميع العصور الذين تجردوا عن الهوى وهو أن خبر الواحد هو بحسب الدليل الدال عليه، فقد يكون مقطوعاً بكذبه، وقد يكون مقطوعاً بصدقه، وقد يكون ظني الكذب، وقد يكون ظني الصدق، وقد يتوقف فيه فلا يجزم بصدقه ولا بكذبه.إذاً ما يقرره
الرازي وغيره من أن خبر الآحاد مطلقاً ظني مردود وباطل ومخالف لما عليه العلماء، بل وكافة العقلاء.قال
ابن القيم رحمه الله: (لا يجوز أن ينفى عن خبر الواحد مطلقاً أنه يحصل العلم) فلا وجه لإقامة الدليل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم كما فعل
الرازي بإطلاق من غير تفصيل، يقول
ابن القيم رحمه الله تعالى: (وإلا اجتمع النقيضان) أي: فكونك تجزم أحياناً بصدق خبر الواحد، وتجزم أحياناً بكذبه فهذا غير معقول، فمن قال: إن خبر الواحد مطلقاً حق ومن قال: إن خبر الواحد مطلقاً باطل مردود فقد أقر باجتماع النقيضين، وهو في حياته وفي تعامله لا بد أن يقع منه ذلك فيجتمع لديه النقيضان؛ لأنه لا بد أن يجزم أحياناً بكذبه وأحياناً يجزم بصحته مع أنه واحد، ولذا فإن خبر الواحد كما قلنا: يفيد العلم في مواضع، فيفيد العلم القطعي الضروري الذي لو أقسمت وحلفت أنه واقع لما كنت آثماً ولا حانثاً، بل تجد يقيناً وتجد ذلك ضرورة من نفسك لا تستطيع أن تدفعها في بعض المواضع.